9
هل تساءلت يوماً عن سر ما يدعى ” الحنين “؟ عن سر ذلك الشعور الذي يطاردك عندما تزور بيتك القديم الذي شهد أيام طفولتك أو شبابك، تلك الرائحة المألوفة، ذاك الاطمئنان الذي تشعر به عندما تذهب إلى مكانٍ من الماضي، غرفتك القديمة، الصور العائلية، متعلقاتك الشخصية القديمة، هل جربت يوماً أن يلتقطك الخيال إلى زمنٍ قد انقضى بالفعل ولكنك تنتمي إليه بكل جوارحك؟ زمن الطفولة الخالي من المسؤوليات والمخاوف، الراحة وتلك الأيام الدافئة، عندما كان كل شيء جيد وكان الجميع سعداء! وتتمنى لو أنك تستعيد تلك الحياة ولو للحظات… أنت هنا في حالة ” نوستالجيا “…

ما هي ” النوستالجيا “؟

” النوستالجيا ” كمفهوم هي ” الحنين إلى ماضي مثالي “، أو هي حالة عاطفية نصنعها نحن في إطارٍ معين وفي أوقات وأماكن معينة، أو يمكن وصفها بأنها عملية يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة وطرد جميع اللحظات السلبية، والجدير بالذكر أن نسبة 80% من الناس يشعرون بالنوستالجيا مرة على الأقل أسبوعياً!

الوحدة تخلق ” النوستالجيا “…

الوحدة تخلق النوستالجيا
يقول الخبراء أن ” النوستالجيا ” هي آلية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية، لذا فإنها تكثر في حالات الملل أو الشعور بالوحدة خاصة عن كبار السن، أي عند شعور الإنسان بأن حياته فقدت قيمتها وأصبحت تتغير للأسوأ، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي الطيبة بدفئها وعواطفها، فتعطيه تلك الذكريات الدفعة التي يحتاجها للتعامل مع التحديات الحالية، فكما يقولون أن الماضي هو ” قوت الأموات “، فالنوستالجيا هي مورد نفسي يهبط فيه الناس ليستعيدوا حياتهم ويشعروا بقيمتهم، وهي من السبل الناجحة في صد الاكتئاب ” وقتياً “، فتشعر بأن حياتك البائسة كانت ذات قيمةٍ ” يوماً ما “!
ببساطة… نحن نحب النوستالجيا لأنها تجعلنا بطريقة ” غامضة ” نشعر أفضل!
نحن نحب النوستالجيا لأنها تجعلنا بطريقة " غامضة " نشعر أفضل

ماذا لو كنت أعيش في تلك الأوقات؟

تلك الصورة التي نراها في صور وأفلام الستينات والسبعينات، الحياة الراقية، والأخلاق العالية، الذوق الرفيع في الأدب وفي الفنون وحتى في الموضة، الحياة الهادئة والشوارع الفارغة، النفوس الطيبة الصافية، الترابط الأسري، الوجوه الجميلة بلا مساحيق أو عمليات تجميل، الحياة النظيفة!
تلك الصورة التي نراها في صور وأفلام الستينات والسبعينات
الحياة الهادئة والشوارع الفارغة
كم مرة أَسَرَتنا هذه الصورة؟ أحببناها وصدقناها وعشنا فيها في زمن جميلٍ لم نعهده! هل كان ذاك الزمن جميلاً بالفعل أم أنها مجرد صورة نظيفة رسمتها لنا الأفلام القديمة؟
لا أعرف لهذا السؤال إجابةً سوى أننا غرقنا الآن في تلك الصورة، وأصبح هوس القديم بالنسبة إلينا أسلوب حياة، وطريقة رائعة لجذب الناس والورقة الرابحة في الإعلانات التلفزيونية، وبدأنا بالانعزال عن حاضرنا والانشغال بإحياء صيحات القديم في دور الأزياء والأفلام السينمائية! لأن كل ما يعبر عن الحاضر أصبحنا لا نشعر به ولا نرى أنفسنا فيه، لأننا نحب الماضي، نحب ” النوستالجيا “!

” النوستالجيا “… جيدة أم سيئة؟

" النوستالجيا "... جيدة أم سيئة
” لو أن ما فعلته بالأمس يبدو عظيماً، فهذا يعني أنك لم تفعل شيئاً اليوم “
لو هولتز
نحن نحب ” النوستالجيا “، ولكنها ليست جيدة كما نظن، وليست سيئة أيضاً! من الأسلم أن نقول إننا جميعاً أو أن معظمنا يتمنى العودة إلى الماضي، وأننا جميعاً مررنا ونمر دائماً بذاك الشعور الذي يشبه مشاعر الحزن والسعادة، كلما زاد رضانا عن واقعنا يقل ذلك الشعور ولكنه لا يختفي! النوستالجيا جهاز آخر في أجسامنا يمدنا بالسعادة ولحظات الراحة، ومهما أخذنا منه لا نكتفي، شعورٌ يجمعنا ويربطنا بأشخاصٍ معينين وأماكن دافئة وروائح مألوفة، ” النوستالجيا ” تعطينا دفعة نحو المستقبل وتحسن من حالتنا النفسية وتزيد رغبتنا في التواصل الاجتماعي خصوصاً مع الأشخاص الذين يرتبط الماضي بهم كالأهل وأصدقاء الطفولة، الحنين يجعلنا أكثر أمناً وأكثر دفئاً، فهي إذاً حالة نافعة وليست سيئة أبداً!
الأشخاص الذين يرتبط الماضي بهم كالأهل وأصدقاء الطفولة
في الواقع إن الخطر الوحيد وراء ” النوستالجيا ” يكمن عندما نقف عندها، أو عندما نفهمها بشكل غير صحيح، فنظل نرتدي تلك النظارات الوردية عن الماضي بدلاً من أخذ نظرة جادة عن الحاضر، ونغرق أنفسنا في الماضي ونعيش فيه كوسيلة لتجنب الحاضر، ونرفض الانتقال إلى المستقبل أو إلى كل ما هو جديد لأن الماضي هو الأفضل دائماً وأبداً!
فالأزياء القديمة رائعة، والمطاعم القديمة مثالية، والأفلام القديمة هي الأفضل! ونظل نحيي صيحات القديم لمجرد إحيائها وندور في دائرةٍ مفرغة لا نجني منها سوى أننا نفقد التعامل مع الحاضر ونهدم المستقبل!
نفقد التعامل مع الحاضر ونهدم المستقبل

أخلق حاضراً!

أخلق حاضراً
” اغرس اليوم شجرة تنم في ظلها غداً “
نتفق جميعاً الآن أن الذكريات جميلة والماضي مبهج، ولكن الماضي لنتذكره وليس لنعيش فيه لأنه انتهى! فأنسب طريقة للتعامل مع ” النوستالجيا ” وجني فوائدها وتجنب عواقبها هي أن تتذكر الماضي مع حفظ الحاضر، تذكر ماضيك واصنع حاضرك ومستقبلك، ولا تتوقف عن خلق ذكرياتٍ لنفسك تلجأ إليها في المستقبل، وهذا يسمى ” النوستالجيا الاستباقية “، أما الخلل فسيأتي عندما تنشغل بالتفكير في الماضي وتتوقف عن ملء خزان الذكريات الذي ستتصل به في المستقبل لأنك دائماً ستحتاجه!